من كتاب فقه الأدعية والأذكار
فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه من القرآن الكريم
نبدأ الحديث هنا عن الحمد (حمد الله تبارك وتعالى)، فإنّ له شأناً عظيماً وفضلاً كبيراً، وثوابُه عند الله عظيمٌ، ومنزلته عنده عالية.
فقد افتتح سبحانه كتابه القرآن الكريم بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}،
وافتتح
بعض السور فيه بالحمد فقال في أول الأنعام: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، وقال في أوَّلِ الكهف: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} ، وقال في أول سبأ: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ }،
وقال في أول فاطر: {الحَمْدُ
للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ ورُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا
يَشَآءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وافتتح خلقَه بالحمد فقال: { الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ}الأنعام : 1، واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار : {وَتَرَى
المَلآئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْد
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ
العَالَمِينَ}الزمر : 75،
وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ
فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}يونس 10.
فالحمد له سبحانه أوَّله وآخره، وله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق، كما قال سبحانه: {وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}القصص : 70،
وقال سبحانه: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} سبأ : 1، فهو سبحانه المحمود في ذلك كلِّه كما يقول المصلي: " اللّهمّ ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئتَ من شيء بعد".
فهذه النصوصُ دالّةٌ على شُمولِ حمده سبحانه لخلقِه وأمرِه،
فهو سبحانه حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحمد نفسه
على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد
نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة
أحد من خلقه لحاجته إليه، كما في قوله تعالى: {وَقُلِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ
فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً} الإسراء : 111،
وحمد نفسه على علوّه وكبريائه كما قاله سبحانه: {فَلِلَّهِ
الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ
الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} الجاثية : 36 ، 37،
وحمد نفسه في الأولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده في العالم العلوي
والسفلي، ونبّه على هذا كلّه في كتابه في آيات عديدة تدل على تنوّع حمده
سبحانه، وتعدّد أسباب حمده، وقد جمعها الله في مواطن من كتابه، وفرّقها في
مواطن أخرى ليتعرّف إليه عباده، وليعرفوا كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّب إليهم بذلك، ويحبّهم إذا عرفوه وأحبّوه وحمدوه .
وقد ورد الحمد في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعاً، جُمع في بعضها أسباب الحمد، وفي بعضها ذُكرت أسبابه مفصّلةً، فمن الآيات التي جُمع فيها أسباب الحمد قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقوله: {لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ}القصص : 70، وقوله: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}سبأ : 1.
ومن الآيات التي ذُكر فيها أسباب الحمد مفصّلة قوله تعالى: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ}الأعراف : 43،
ففيها حمده على نعمة دخول الجَنّة. وقوله تعالى: {فَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجّاَنَا مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}المؤمنون : 28، ففيها حمده على النصر على الأعداء والسلامة من شرّهم. وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} غافر : 65، ففيها حمده على نعمة التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده.
وقوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} إبراهيم : 39، ففيها حمده سبحانه على هبة الولد. وقوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجاً} الكهف : 1، ففيها حمده سبحانه على نعمة إنزال القرآن الكريم قيّماً لا عِوج فيه {لِيُنذِرَ
بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً}الكهف : 2.
وقوله تعالى : {وَقُلِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ
فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً }الإسراء : 111
، ففيها حمده سبحانه لكماله وجلاله، وتنزّهه عن النقائص والعيوب، والآيات
في هذا المعنى كثيرة، فالله تبارك وتعالى هو الحميد المجيد.
و "الحميد" اسم من أسماء الله الحسنى العظيمة، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في أكثر من خمسة عشر موضعاً، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}فاطر : 15 ، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}البقرة : 267، وقوله تعالى: {للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}لقمان : 26،
وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} الشورى : 28، وقوله تعالى: {فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً}النساء : 131،
فهو
تبارك وتعالى الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو تبارك وتعالى
المستحق لكل حمد ومحبة وثناء لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال
والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال،
وهو سبحانه حميد من جميع الوجوه: "لأنّ جميع أسمائه تبارك وتعالى حمدٌ،
وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه حمد، وفضله في
إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووُجد بحمده، وظهر
بحمده، وكان الغاية هي حمده،
فحمده سبب ذلك وغايته"،
"وجميع ما يوصف به ويُذكر به ويُخبر عنه به فهو محامد له وثناءٌ وتسبيح
وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه بل هو كما أثنى
على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقُه، فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً
طيّباً مباركاً فيه كما ينبغي لكرم وجهه وعِزّ جلاله ورفيع مجده وعلوّ
جدّه" .
وهو سبحانه كما أنَّه محمودٌ على أسمائه وصفاتهفهو محمودٌ على
فضله وعطائه ونعمائه لما له على عباده "من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه،
وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبرّه
ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة
الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال"، إلى غير ذلك من
نعمه وعطائه، وأهمّ ذلك وأعظمه "هدايته خاصَّتَه وعبادَه إلى سبيل دار السلام،
ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبّب إليهم
الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من
الراشدين"
فالحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، كما يحب ربّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزّ جلاله،
حمداً يملأ السموات والأرض وما بينهما، وما شاء ربنا من شيء بعد، بمجامع
حمده كلّها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على نعمِه كلّها ما علمنا منها وما
لم نعلم، عدد ما حمده الحامدون، وغفل عن ذكره الغافلون، وعدد ما جرى به
قلمه، وأحصاه كتابه، وأحاط به علمه.
الأدلّة من السنة على فضل الحمد
وكما أنّ القرآن الكريم قد دلّ على فضل الحمد وعِظم شأنه بأنواع كثيرة من الأدلة سبق الإشارة إلى طرف منها، فكذلك السنة مليئة
بذكر الأدلة على فضل الحمد وعِظم شأنه، وما يترتّب عليه من الفوائد
والثمار والفضائل في الدنيا والآخرة، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم هو صاحب
لواء الحمد، وهذه مفخرةٌ عظيمةٌ ومكانةٌ رفيعةٌ حظيَ بها صلوات الله وسلامه
عليه، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمد ولا
فخر، وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أول شافعٍ،
وأوّل مشفّعٍ ولا فخر"
المسند (3/2)، وسنن ابن ماجه (رقم:4308)، وسنن الترمذي (3615).
فلمّا
كان صلوات الله وسلامه عليه أحمدَ الخلائق لله، وأكملَهم قياماً بحمده
أُعطي لواءَ الحمد، ليأوي إلى لوائه الحامدون لله من الأولين والآخرين،
وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث: "وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي"،
وهو لواءٌ حقيقيٌّ يحمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بيده
ينضوي تحته وينضمّ إليه جميعُ الحمّادين من الأولين والآخرين، وأقربُ الخلق
إلى لوائه أكثرُهم حمداً لله وذِكراً له وقياماً بأمره، وأمّتُه صلى الله
عليه وسلم هي خيرُ الأمم، وهم الحمَّادون الذين يحمدون الله على السرّاء والضرّاء،
وقد رُوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوَّلُ من يُدعى إلى الجنّة الحمَّادون، الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء"،
رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في
المستدرك، لكن في إسناده ضعف، وقد رواه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح
موقوفاً على سعيد بن جُبير رحمه الله .
وجاء في أثر يُروى عن كعب قال: "نجده
مكتوباً محمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فظٌّ ولا غليظٌ، ولا
صخّابٌ بالأسواق، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة، ولكنه يعفو ويغفر، وأمّتُه
الحمّادون يكبِّرون الله عز وجل على كلِّ نجدٍ، ويحمدونه في كلِّ منزلة..."، رواه الدارمي في مقدّمة سننه0
سنن الدارمي (1/16).
لااله الاانت سبحانك اني كنت من الظالمين