الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه .
أما بعد :
فإنِّي لماَّ رأيت المذهب الحدادي يقوم على الطعن في أهل السنة والتحريش بينهم والسعي الحثيث على تفريقهم وتشتيت شملهم وكان من أعظم أسلحتهم لتحقيق أهدافهم إظهار الشدة التي تصور الإسلام وكأنه آصار وأغلال لا رحمة فيه ولا سماحة ولا رخص عند الحاجة والضرورة ولا مراعاة المصالح والمفاسد لما رأيت هذه البلايا التي تُشوِّهُ الإسلام والمنهج السلفي بصفة خاصة وتنفر عن دين الله الحق كتبت بحثاً فيه بيان سماحة الإسلام وحب الله للأخذ بالرخص عند الضرورة والحاجة وغَضَبُ الرسول صلى الله عليه وسلم على من يرغب عن هذه الرُّخص التي تميز رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على الديانات المحرَّفة وذكرت الأدلة من الكتاب والسنَّة وأقوال العلماء بل وإجماعهم على مشروعية الأخذ بالرخص ؛هذا موجزه :
- أولاً : في حال الإكراه ؛ وسقت الدليل من القرآن والسيرة على أخذ عمار بالرخصة في النطق بالكفر ومدح آلهة المشركين وسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان أخذاً منه بالرخصة وأقره الله وأنزل في ذلك آية من القرآن , وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو قال ذلك إنسان في حال الاختيار لكفر بالله عز وجل , وهذه الرخصة في أعظم أصل من أصول الإسلام .
- ثانياً : الولاء والبراء تجاه الكفار أصل من أصول الإسلام ؛ يجوز للمسلم في حال الخوف أن يستخدم التقية فلا يظهر إسلامه ولا يدعو إليه ويسقط عنه أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد كحال النجاشي ومن أسلم معه من قومه فلم يستطيعوا أن يظهروا إسلامهم ولا شيئاً من دينهم كالصلاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الحق .
وفي مثل ذلك يقول الله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (آل عمران:28)
فكان ذلك رخصة لكل من احتاج إلى ذلك من المسلمين بالنص والإجماع ولو أظهر الولاء للكفار .
- ثالثاً : الصلاة ركن من أركان الإسلام :
أ- يرخص للمسلم في حال السفر أن يصلي الرباعية ركعتين وأن يجمع بين فريضتين : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء .
ب- ويرخص له في شدة القتال والخوف أن يصلي راكباً وماشياً وإلى القبلة وإلى غير القبلة ويصلي ركعتين أو ركعة ويصلي إيماء دون ركوع وسجود .
وكذلك الخائف من عدو وسبع وغيرهما يصلي راكباً وماشياً إلى القبلة وغير القبلة وأدلة ذلك من الكتاب والسنة وأخذ به الفقهاء .
- رابعاً : الجهاد في سبيل الله أصل من أصول الإسلام وذروة سنام الإسلام ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق وفي وجوبه آيات وأحاديث كثيرة ومن الآيات : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (لأنفال:39) .
ومع ذلك يرخص للمسلمين الجنوح إلى الصلح والتوقف عن الجهاد إذا جنح الكفار إلى السلم قال تعالى : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (الأنفال:61)
ويجوز للمسلمين أن يبدؤوا بطلب الصلح من الكفار عند حاجتهم إلى ذلك أو رأوا في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين .
- خامساً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الإسلام يدخل فيه الأمر بالتوحيد وسائر شرائع الإسلام والنهي عن الشرك والضلال والبدع وسائر المعاصي ويتحقق بالقيام به عزة الإسلام والمسلمين .
وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وقد ميز الله هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم لقيامهم بهذا الأصل العظيم .
وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتب على حسب حال المؤمنين من قوة وضعف فقد روى أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه- عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم وغيره .
وفي حديث آخر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- فيه نص ٌ على تغيير المنكر على هذه المراتب وفي آخره : " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " وهو في مسلم وغيره .
وعلى العالم البصير أن يراعي في ذلك المصالح والمفاسد فإذا كان النهي يؤدي إلى مفسدة أكبر من المفسدة التي يريد تغييرها فحرام عليه أن ينهي عن المفسدة الصغرى التي تؤدي إلى أكبر منها وله أن يسكت إذا ترجحت مصلحة السكوت على الكلام كما قرر ذلك شيخ الإسلام وغيره .
وللعلماء تفاصيل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قررها العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- فيها بيان متى يجب الكلام والتغيير ومتى لا يجب مما يظهر في الإسلام الحكمة ومراعاة المصالح والمفاسد واليسر في الإسلام وسماحته عند الحاجة والضرورة وقوته عندما تدعو الحاجة إلى القوة إذا تطلبها الواقع وتوفرت القوة ووسائلها .
واليوم المسلمون لا يقومون بجهاد الكفار لضعفهم وتفرقهم وضلال أغلبيتهم مما سلط الكفار عليهم بتفوقهم الهائل في أنواع الأسلحة الجوية والبرية والبحرية فلا يرى عالم واع وجوب الزحف على أوروبا وأمريكا والصين والروس لا سيما وهذه الدول تتكاتف وتتعاون ضد الإسلام والمسلمين ، ولذا يرى العلماء الواعون الأخذ بالرخصة في عدم الجهاد لهذه الأمم وفي الوقت نفسه يوجب الجهاد الدعوي في إصلاح المسلمين والعودة بهم إلى الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح .
وأخيراً , فَسَمِّ كُلَّ هذه الرَّحمة بالمسلمين عند حاجتهم وضرورتهم : سماحةً ورُخصاً أو تنازلاً ؛ فالأمور بمقاصدها .