آيات الآفاق الكونية تنورنا وجوب الإيمان بالله وتوحيده
وفيه تشرق أدلة وبراهين تنورنا حقيقة الإيمان بالله وتوحيده إن شاء الله :
إشراق يتقدم : ينورنا سبيل أدلة التكوين الموجبة للإيمان بالله:
يا طيب : ذكرنا بيانا في إيجاب التدبر في الكون ونفس وجودنا في البحثين السابقين ليتم الإيمان بالله تعالى ، وكان البحث من ناحية الفطرة المغروسة في النفس وبحثها عن النعيم والكمال عند الله تعالى ، وما تمليه الأحداث الكونية والنفسية والبدنية ، وما تجره من الشدائد والبلاء الموجب لطلب الله والتضرع له ، والتوسل به لرفعها ولسد النقص الحاصل منها ، أو لدفعها وتعويضها بالخير والبركة والكمال النازل من الله تعالى ، وذلك بعد معرفته بحق المعرفة والتوجه له ثم التضرع له سبحانه بما يستحق من الشأن العظيم .
وعرفنا يا أخي : إن الشدائد الكونية هي حالات طارئة وحوادث جزئية في الوجود الكوني والفردي والأسرة والمجتمع ، وسببها لإصلاح ما يُفسد أو فسد من الكون بذهاب بعضه وتكون المناسب المنسجم والملائم للجميع ، وهي من السنن الكونية المودعة في الوجود والخلق من الخالق المتعالي لتدبيره ولحفظ نظمه ، وهي لها تأثير عظيم في هداية الناس لمعرفة الله الواحد الأحد وعظمته .
وعرفت إنها : للذي يؤمن بالله ويطيعه نعمة ورحمة واختبار لينالوا درجة الصابرين ، كما هي تنبه الناس للخالق وعظمته وتثير فيهم طلب المعرفة وبالخصوص للغافلين ليرجعوا لمعرفة الله وتوحيده وطاعة ، وتدعوا العاصين للتوبة والإنابة له تعالى ، وهي للمعاندين عقوبة وخزي .
وهنا يا أخي نذكر آيات قرآنية : تعلمنا وتذكرنا وترشدنا لكيفية التدبر في الكون وفي النفس من ناحية أخرى ، وهو التدبر في حدوثهما ونظمهما البديع ، ودقة الصنع وحُسن التكون ، وعجيب الخلقة والنعم الموجودة فيهما ، والآيات العظيمة الباهرة التي جعلها الله في الكون والنفس ، وليدرا على كل شيء بحسبه من بركاته تعالى ونعمه ، وليصل كل شيء لكماله المناسب .
فهو بحث : يتعلق بالكون والنفس ومكوناتهما ، ووحدة الكون والكونيات وحدوثها ، ونظمها الدال على احتياجه لخالق ومدبر واحد لا شريك له ، وله كل عظمة وكبرياء وكمال وجمال مطلق وقد قال عز وجل :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فصلت 53 .
فهنا يا طيب : عدة مسائل قرآنية نتدبر فيها من خلال التدبر في الكون والنفس ، وترشدنا وتعرفنا ضرورة الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وتدلنا بل تبرهن برهان محكم وقاطع على وحدة الخالق عز وجل ، وإنه له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وإن منه وإليه كل كمال وجمال في الوجود ، وهو الخالق والمربي والهادي لكل الكائنات ، والتي يجب عليها أن تطيعه وحده سبحانه بما يحب ويرضى ، ولتنال نصيبها من رحمته وعطاءه ومدده فتتنعم وتبقى .
فهذه البحوث : في أنوار وإن كان كلها ترجع لبحث الحدوث والنظم ، وإن الحادث يحتاج لمحدث والمعلول لعلة ، والذي سنقعد البحث فيه بعد البحث في الآيات الكونية والنفسية ، لكن وجهة التفكر والتدبر وسلوكها مختلفة في المعرفة وبيانها ، وكلها نقصد بها ترسيخ الإيمان بالله وحده لا شريك له ، وألفات النظر لحقيقة حاجة الكون والكائنات كلها للغني المتعالي ، ووجوب عبادته وشكره وحده عز وجل ، وأسأل الله أن ينفعنا بها فيرسخ إيماننا به تعالى بما يحب ويرضى ، إنه أرحم الراحمين ورحم الله من قال آمين يا رب العالمين :
النور الأول
أدلة حدوث الكائنات تبرهن على ضرورة الإيمان بالله وحده
الإشراق الأول :
أفول الكائنات يدلنا على ضرورة الإيمان بالله وحده :
يا أخي : إن الكائنات تأفل وتتبدل فليست بآلهة تستحق العبودية ، ولا هي خالقة لنفسها ولا يكون مثلها خالقا لها ، فلابد لها من خالق غير مخلوق وهو الله تعالى وحده لا شريك له .
فالحق يا طيب : إن التدبر والتفكر في خلق السماوات والأرض ، وكذا التمعن في خفايا وأسرار أنفسنا وإمكاناتهما وعظمتهما ، يوجب علينا الإيمان بالله تعالى وتوحيده ، ومن مصاديق هذا التفكر تفكر نبي الله إبراهيم عليه السلام في بعض الكائنات ، وهو ما بينه الله عز وجل وأرشدنا إليه في كتابه الكريم :
قال عزّ وجلّ : { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الأنعام 78 ـ 79 .
وهذه الآيات الكريمة : تدلنا على أنه لا شيء يستحق العبودية والتوجه إليه إلا الله عز وجل ، وغيره سبحانه لا قيمة له لأنه يأفل ويذهب مهما كان في الكبر شمس أو قمر سماوي أو صغير أرضي ، ومهما كان ضياءه وبهرجته وزينته إنسان أو حيوان أو مادة أو اكتشاف علمي أو برنامج فني أو لهو ولعب أو شهوة وهوى وغرور .
وإن ما يحس به الإنسان : في قرار نفسه وسليم عقله إن الكمال عند الباقي الذي لا يزول ، ومن يزول ويفنى لا كمال عنده ، ولو كان عنده كمال لحفظ نفسه ومنحها البقاء الدائم الغني المستقل بنفسه ، ومنعها الفناء والحاجة والنقص ، ولما كانت كل الأشياء مآلها الذبول ومصيرها الزوال والأفول ، فلابد لها من موجد لا يزول عنده كل كمال وجمال ، وهو الخالق البارئ المصور لكل شيء سبحانه وتعالى .
فلذا يا أخي بحق إنه : لا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وهو العليم والغني والقادر الخالق ، والموجد لكل موجود وكائن ، لأنه الموجود الذي لا يزول وتعالى عن الأفول ، وهو الذي له كل كمال ، وهو المانح لكل كمال وجمال في الوجود ولكل موجود ، وهذا كان تدبر في نفس الأفول والزوال في الكائنات وحاجتها لخالق .
الإشراق الثاني :
كل شيء يدل على أنه مخلوق لله ويدعونا للإيمان بالله وتوحيده:
قال الله العظيم : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ *
أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ } الطور 35-37 .
فلو تدبرنا يا أخي : في كل الكائنات لدلتنا على أنها مخلوقة ، وإن كل موجود منها لم يخلق نفسه ، ولا أوجده من هو مثله ، كما أنه لم يوجد من غير شيء ، فإذاً لابد له من خالق لم يخلقه أحد ، وهو أزلي قديم وهو خالق لكل شيء ، ويجب أن تكون له القدرة العظيمة لكي يهدي ما يخلقه لكل كمال وجمال ، ويجعل له ما يديم به وجوده ، وينزل عليه بركاته ليستمر .
وهذه موجودات الكون : تدبر يا طيب في أي كائن منها تجده حادث ومتغير ويزول ويتكون من بقاياه غيره ، وحتى الباقي دهرا أو زمانا طويلا ، فهو فيه صفات التغير والحجم والكم والطول والعرض والحركة والسكون ، وكل صفات المخلوق الحادث ، والذي فيه الحاجة لمدد وعطاء غيره ليكمل به وجوده ، ويسد بنعمه عليه نقصه .
وليس إلا واحد : هو الباقي من غير خلق وحاجة لأحد ، فإذاً هو الفاطر والخالق والبارئ لنا ولكل شيء ، وهو الذي يستحق العبودية ومنه يُطلب الكمال ، وهو الذي يستحق أن يتوجه له الإنسان بالطاعة والشكر وحده لا شريك له سبحانه .
وهذه أحاديث شريفة : تبين إن حدوث للكائنات يدل على ضرورة وجود المكون لها : وقد ذكر في التوحيد : بالإسناد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام : أنه دخل عليه رجل فقال له :
يا ابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم ؟
فقال : ( أنت لم تكن ثم كنت ، وقد علمت أنك لم تكون نفسك ، ولا كونك من هو مثلك )[5] .
وفي توحيد الصدوق : عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو شاكر الديصاني : إن لي مسألة تستأذن لي على صاحبك فإني قد سألت عنها جماعة من العلماء فما أجابوني بجواب مشبع .
فقلت : هل لك أن تخبرني بها فلعل عندي جوابا ترتضيه ؟
فقال : إني أحب أن ألقي بها أبا عبد الله عليه السلام ، فاستأذنت له فدخل ، فقال له : أتأذن لي في السؤال ؟ فقال له عليه السلام : سل عما بدا لك . فقال له : ما الدليل على أن لك صانعا ؟
فقال عليه السلام : ( وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين :
إما أن أكون صنعتها أنا ، فلا أخلو من أحد معنيين :
إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة ، أو صنعتها وكانت معدومة ، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا .
فقد ثبت المعنى الثالث : أن لي صانعا وهو الله رب العالمين ) .
فقام وما أجاب جواب [6].
هذا يا أخي : بيان قوي لكي يتدبر الإنسان في نفسه ، بأنه لم يخلق هو شيء من الموجودات ، ولا شيء من الكائنات خلقه ، لأنها محتاجة مثله للمدد ، ولا أبويه خلقاه لأنهما آلات معده لتجمع المواد المولدة ، كما إن أبوية لم يخلقا أنفسهما ، ولا شيء من الوجود خلقهما لأنه له نفس مواصفاتهما ، فلابد للكل من خالق غير مخلوق ، وسيأتي شرح جميل في البيان الآتي الذاكر للأحاديث الشريفة ، والتي فيها براهين التوحيد على حدوث الأشياء ، وبالنظر لبرهان النفس الآتي ، وبحث العلة والمعلول ، ونفي الصدفة في الكون فأنتظر .