النور الثاني
برهان النظم في الوجود يدال على إن الخالق واحد
يا طيب : إن الآيات الشريفة التي ترشدنا لوجوب التفكر في الآفاق والأنفس كثيرة ، وقد ذكرنا قسم منها في وجوب المعرفة بالله تعالى والإيمان به بالدليل والبرهان ، وإنه تعالى يذم التقليد في مسائل التوحيد والإيمان بالعقائد ، وهذه الآيات الكريمة كتلك ، ترشد الإنسان وتدله على الدليل المحكم الذي يكون سبب لإيمانه بالله تعالى ، ولإقامة العبودية له وحده عن إخلاص :
قال الله عزّ وجلّ : { وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ، وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ، لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } البقرة 163 ـ 164 ، وأنظر سورة الروم 20- 25 ، وغيرها من الآيات .
يا طيب إن هذه الآيات : كريمة ، وتدلنا وترشدنا لكيفية الوصل لمعرفة الله تعالى وتوحيده من خلال التدبر في الكون ، وتعلمنا إن الله وحده لا شريك له هو الخالق لكل شيء ، وجاعل فيه كل شيء متقن وحسن ومحكم ، فتدبر الوجود من الذرة إلى المجرة ترى كل شيء في مكانه المناسب ووضعه الذي يجب أن يكون فيه ، وإنه يسير وفق هدى مدبره وخالقه لغاية ونهاية مناسبة له .
فمع ترامي : أطراف السماوات والأرض والكواكب السماوية والأجرام الفلكية وتباعدها بملايين الأميال ، تراها مع ذلك كيف اجتمعت وتكونت منها جاذبية مستقره ليدور كل شيء في فلكه ، وبالخصوص الشمس والقمر والأرض ، فإن لها تباعد متناسب وتدور في أفلاكها كل بحسبه ، ليتكون لنا الليل والنهار والضوء المناسب للعمل في النهار ، والراحة في الليل ، وتكون الفصول الأربعة لتتنوع الأحوال الجوية والحَر والبرد والرياح والسحاب والأمطار ، وتحوّل الأحوال لكي لا يسأم الإنسان من حال واحد ، وبتنوع الفصول تتنوع الأثمار والأشجار والنبات والحيوان المهاجر ، وليسعد الإنسان المكرم ويتنعم بها ويسخرها لخدمته وإن كان غير قنوع .
ويا أخي إن هذا النظم العجيب في الكون : بكل ما عرفت من تناسقه وهداه حتى يمكن أن توجد الكائنات الحية ، ولتعيش بظروف ملائمة لها ، وبالخصوص خلاصتها الإنسان الذي بما عنده من الأدوات اللازمة ليستفاد من هذا الكون بأحسن صورة ممكنة ، ويعيش أفضل عيش رغيد ، فهذا كله يكون أكبر داعي لأن يسأل الإنسان عن خالقه وليتعرف عليه ، ومن ثم يطلب هداه التشريعي لينتظم عيشه بعد أن عرف هداه في التكوين ودقته وحسنه وإحكامه .
وهذا الشعور : بوجود الخالق لهذا الكون بعد التدبر فيه ، يقره إي منصف ، فيرى إن هذا الكون المتنوع ، وهذا النظم الدقيق لابد له من خالق ومدبر ، وهذا التدبر نفسه يدلنا على أن الخالق والهادي للكون واحد لا شريك له ، و إلا لتعارضت مكوناته ولتدمرت ، بل لذهب كل إله بمخلوقه ، ولدبره بما يراه مناسب حاله وعلمه وفكره ، فلا ينتظم شيء من الوجود ، بل لا يمكن أن يستمر ، ولفسد التكوين المادي فضلاً عن وجود الإنسان الحي واستمراره .
وهدى الله في القرآن المجيد : ليعلمنا التدبر في الكون ، وإتقان صنعه وإحكامه ، والنظم الدقيق فيه قبل ألف وأربعمائة سنة ، وهو قبل أي اكتشاف علمي أو جود جهاز فني ، ولا مرصد فلكي ولا معرفة للجاذبية ، وهذا لأكبر دليل على أن ما جاء به الله تعالى من التعاليم والمعارف من خالق الكون وهادية الهداية التكوينية ، والإنسان لما كان عاقل فله من الله هداية تشريعية ، والآيات المبينة لهذا المعنى لكثيرة في القرآن الكريم :
قال الله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }القمر49 .
وقال تعالى : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }الفرقان2 .
وقال عز وجل : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ } السجدة7 .
وبعد إن عرفت يا طيب : بيان الله تعالى وحكايته عن الكون ، وكيف أنه قدره بأحسن تقدير ، وإن كل شيء فيه موزون ، فهذه آيات كريمة يشر الله تعالى بها لخلقه للكون ، ولتربيته وهداه ، وحفظه ليستمر ، وليصل لكل شيء لغايته فقال : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}طه50 .
وقال سبحانه : {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}الأعلى3.
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } سبأ21 .
وتدبر القرآن المجيد : ترى فيه آيات كثير ترشدنا لكيفية التدبر في الكون ، وحتى نتمكن من معرفة الخالق وتوحيده ومعرفة عظمة ، وإنه هو المعطي لكل كمال وخير وبركه بالكون والهدى بنوعيه التشريعي والتكويني .
وتدبر سور القرآن الكريم : ترى عظيم نعم الله وهدايته وكيف يرشدنا بالدليل والبرهان لما خلق في الكون ، وإن فيه كل شيء محسوب وموزون ومخلوق لغاية ، وسيأتي في أخر بحث التوحيد بيان لهذا المعنى بالآيات القرآنية فأنتظر ، وتدبر سورة النحل فإن فيها بيان معجز يعلمنا التدبر في الكون وأحواله حتى وجود الإنسان وهدايته وما جعل الله تعالى له من نِعم ، ومرت بعض الآيات الكريمة في بحث وجوب المعرفة لأصول الدين بالدليل والرهان فراجعها.
--------------------------------------------------------------------------------